إسلام يوسف*
ـــــــــــــــــــــــــ
خارجا لتوه من مسرح سيد درويش بواجهته الأوبرالية الايطالية الموشاة بوجوه باروكية فاغرة أفواهها، ماراً بتمثال نوبار باشا الذى يتوسط الفسحة الدائرية أمام المبنى العتيق، يخرج إلى شارع فؤاد، يعدل من وضع الكاسكتة ذات اللون الأصفر الباهت على رأسه الذى غذاه الشيب منذ زمن، تنسدل خصلات فضية اللون على كتفه، بذلته الصوفية العتيقة ذات اللون البنى الكالح تستقبل فى جيبها العلوى الأيمن زهرة صناعية قانية الحمرة علتها طبقة لزجة من التراب الساكن فى وداعة أبدية، ممسكاً عصاه التى يتوكأ عليها ، عصاً خيزران بنية تآكل ملاطها، فى أسفلها قطعة من الكاوتشوك سحلتها الطرقات
سار على الجانب الأيمن ماراً بمحلات خردوات و أحذية و محلات أثاث فاخر ، وصل إلى محل حلوانى (فينوس) على ناصية تقاطع شارع فؤاد النبى دانيال، دخل إليه مواجهاً عامل المحل بإبتسامة صافية، طلب قطعتين من كيك الشكولاتة و قطعتين من الكرواسون، لفهما له العامل فى ورقة بيضاء، أخذها و خرج صاعداً إلى شاطىء البحر، يسير بمحاذاة الكورنيش بخطىً وئيدة متمهلة تنوء بالزمن، جلس إلى أحد المقاعد الحجرية تاركا لقدميه فرصة للتنفس و الراحة من عناء الطريق، يراقب أسراب النوارس المنتشرة على صفحة الماء كأنما هى هنا إلى الأبد، تبدو من بعيد كأنجم مضيئة لماعة منثورة على زرقة الماء، ساحبا نفساً عميقاً من أنفاس الشاطىء، يقوم بعده مواصلا مسيره إلى حى المنشية، يجلس على مقهى البورصة التجارية المطل على البحر،يطلب فنجاناً من القهوة ، يأتيه على طبق صغير دائرى أبيض اللون ، يحتسى قهوته السكر زيادة بتمهل من الفنجان الأسطوانى الأبيض المزحرف بزخارف نباتية مذهبة، تقبل شفته المكرمشة حافة الفنجان بود و حميمية، مصدرةً رشفاته صوتاً عالياً فى تلذذ...ينتظر قليلاً، يأتى أصدقائه القدامى ، يلعبون دور طاولة ، و فى ساعة العصارى يهم بالوقوف عائداً إلى البيت
عمارة من العمارات العتيق ة المطلة على الكورنيش، ذى الواجهة الأوروبية الرخامية المحلاة بقرميد أحمر بين ثناياها، شرفة شقته مطلة على البحر، يصعد إلى الطابق الرابع مستندا على الدرابزين الخشبى القائم على أسياخ حديدية، ماداً قدميه فى وهن على سلمة إثر أخرى، يقف أمام الباب الطويل ذو المصراعين بشراعاته الزجاجية، يُخرج المفتاح القديم ذو اللسان العريض و اليد الطويلة، يديره فى كالون الشقة، يفتح و يدخل واضعاً لفة الحلويات على الطاولة الدائرية الصغيرة تركوازية اللون بأرجلها المنحنية الرفيعة و المركونة إلى الجدار بجانب المدخل
تستقبله زوجته ماريا أتية من المطبخ بوجهها المتغضن و عيناها الغائرتان رمادية اللون
-هه..أنت جئت؟
لا يرد.......
يتقدم إلى البيانو العتيق القابع فى ركن الصالة، يجلس على الكرسى الدائرى المنخفض قبالة البيانو، يرفع الغطاء عن الأصابع البيضاء الطويلة و السوداء القصيرة ، تتحسسها يداه، يفتح النوتة الموسيقية على إحدى معزوفات باخ، تنساب أنامله على أصابع البيانو يعزف لحنا شجياُ، بين آونة و أخرى يخرج من بين اللحن المنساب صوت نشاز فيعيد الكرّة، يضرب على الأصابع بعصبية، ثم بنتهى متأففاً
تُخرج زوجته آنيات و أطباق الخزف الصينى من النيش، تلمعها بقماشة ناعمة فى هدوء و إستكانة وببطء لذيذ، مولية ظهرها إليه
-لم تعد كما كانت ؟! هاه؟
يأتيها صوته بنبرة لاهثة مستطلعة فى توجس
-ماذا!؟
- أصابعى لم تعد كما كانت!!
- آه، نعم ، بالطبع...لم تعد كما كانت
يقوم من على المقعد، يسير باستكانة و إستسلام نحو حجرته، ظهره منحنٍ قليلاً ، يدخل الحجرة و يغلق عليه الباب. الحائط مغطى بصور بنية الاطار لأساطين الموسيقى الغربية، بيتهوفن و باخ و هندل، شومان و برامز و دفورجاك، سترافنسكى و تشايكوفسكى و رمسى كورساكوف و موتسارت
يتأمل الصور ، تر تسم على وجهه أمارات الألم، يجلس على حافة السرير الخشبى العريض ذو الملاءة الساتان الحمراء، يشعل غليونه الأسود المدور ذو المبسم المنحنى المبطط، يضعة فى جانب فمه الأيسر و يسحب منه أنفاساً بطيئة ثم ينفث الدخان فى أرجاء الحجرة، عينه س اهمة تصطدم نظراتها بخشب الأرضية الباركيه المتآكل الذى يئن عند وقع خطاه عليه، تجاعيده تبدو أكثر إنقباضاً
عندما ينتهى يفرغ الرماد فى منفضة زجاجية شفافة على الكومودينو بجانب السرير، يرفع قدميه و يستلقى فى هدوء، يزوره النوم تحت ثقل الأجفان...طرقات خفيضة على الباب....لا يرد...تزداد الطرقات..يعلو صوتها ..لا يرد...تغدو الطرقات ضربا مبرحاً على الباب ثم تدخل زوجنه تنادى عليه فى نجوى أشبه بالهمس..لا يرد، تزعق..... لايرد
تنتفض النوارس من على سطح الماء مرتطمة بالهواء العاتى، مشكّلة سحابة كبيرة تبتعد و تبتعد ...ثم تختفى عن النظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاص من المنصورة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق